في الحبالظواهر الاجتماعية

الحب بين الوقوع فيه والوقوف به.

الحب بين الوقوع فيه والوقوف به.

لطالما قلنا إننا “وقعنا في الحب” ، تعبيرا عن حالة وجدانية و شعورية تنتاب الإنسان اتجاه شخص ما أو شيء معين. فيكون في الغالب، مصدرها والمحفز لها خارجيا وما يترتب عنه من مخلفات تمس كل جوانب الذات الهرمونية والجسدية، النفسية والذهنية والاجتماعية… وكأنها – الذات- قبل ذلك لم تكن تحس بمعنى الحب. الملفت للانتباه في هذا الأمر وفي هذه الحالة الوجودية، بمجرد ما ننطق بلفظ الحب حتى يتبادر للذهن الجنس الاخر/ الطرف الآخر، في تجاهل للحب في معناه الواسع الذي يشمل كل شيء وكل شخص موجود في حياتك بمن فيهم انت. وكأن الإنسان ينسى أن ينتبه إلى حضور هذا الشعور  في حياته، فيربطه بشيء ينقصه وغير متوفر لديه المتمثل في الآخر. الأغرب من ذلك، حتى عندما يجد هذا الآخر غالبا ما تلاحظ بعد ذلك تلاشي مشاعر الحب وسحرها الملهب تحت ضغوط الحياة، خاصة عندما تصبح العلاقة في قالب معين – الزواج-. وبعدها تبدأ تسمع كلمات التأفف والضجر بين الأزواج / المتحابين أو الذين كانوا متحابين في لحظة ما في يوم ما. قد يصل الأمر حد الندم على قرار الحب والزواج، وكأن الإنسان صُدم بانهيار أحلامه وتوقعاته حول معاني الحب والزواج وحول الشريك في حد ذاته. يتضح ذلك في كثرة المشاكل والخصام، ويبلغ درجة الانفصال الوجداني والفكري (الطلاق العاطفي…) بالرغم من  الاتصال شبه الجسدي، هذا إذا لم يطفح الكيل ويصل إلى الانفصال القانوني/الطلاق الرسمي.
لقد سمعت شكوى الكثير من الناس، نساء ورجالا، حول هذه العلاقات ومفهمومهم للحب…وكلامهم السوداوي حوله باسم الواقعية ، معتبرينه مجرد وهم وله مفعول مؤقت يزول حين نخرج من عالم الحالمين نحو عالم الواقعية وإكراهات الحياة. هذا دفعني للتساؤل : أين يكمن الخلل ؟ هل في الحب أم في نظرتنا له وتمثلنا لمعناه؟ هل الحب الحقيقي مصدره الخارج، كيفما كان ذاك الخارج/الشخص :حبيبا او  أخا ، أبا ، أما. . . أم في الأصل نابع من الداخل، ويفيض نحو الخارج وينعكس عليه؟ أليس الحب بهذا الشكل السطحي والمتداول فعلا وقوع تحت رحمة الآخر وتقديره وعطائه واهتمامه والتفاتته الحلوة؟! فيجعل منك شحاتا/ متسولا له، لسد  تجوف عاطفي داخلك ولرأب الصدع في طيات ذاتك. مثلا، انتظار الفارس المنقذ بالنسبة للبنات، والأميرة الجميلة الدلوعة.. بالنسبة للرجال.

الحب

تجدر الإشارة هنا، أن هذا الموضوع متشعب جدا ومتداخل ،غير أننا سنحاول في حديثنا هذا تسليط الضوء على بعض زواياه والاستفهامات الناجمة عنها، ليكن لنا لقاء آخر مع جوانب أخرى فيه.


إذا نظرنا لمختلف الحالات الاجتماعية التي تئن تحت وطأتها العلاقات الإنسانية بما فيها العلاقات الزوجية، يمكننا أن نلاحظ بعين الفاحص و المتأمل لها، أن من بين مصادر معاناة الأغلبية سوء فهمهم للحب، وسوء فهمهم لذواتهم وطبيعتها وطبعا سوء فهمهم للآخر . هذا الفهم الخاطئ تلعب فيه البرمجة الاجتماعية والثقافية السائدة دورا كبييرا، عندما كرست فكرة أن مصدر الحب خارجي، ولابد ان يكون مصدره شخص ما. وحين نقول الحب هنا يدخل فيه كل ماله صلة بتجلياته من اهتمام وحنان وتقدير واحترام وعطاء… وكأنك كائن ناقص غير مكتمل إلا بحضور الشخص الآخر وعطائه، وحياتك السعيدة في أهم جوانبها، تظل متوقفة على وجوده من عدمه.الأمر الذي يعزز داخل المرء فراغا داخليا يجعله متعطشا لملئه وفق توقعات معينة. وهذا العامل الثاني لمعاناة الأغلبية هو رفع سقف التوقعات، خاصة في العلاقة بالآخرين والرغبة الدفينة في جعلهم مشابهين لك، يريدون ما تريد ويفعلون ما تطلب… في تجاهل لمبدأ ; الأصل هو الاختلاف الذي يفضي للتكامل لا الخلاف.

ويدخل المرء في دائرة السعي لتغيير الآخر ليكون على مقاسه الصحيح، أو العيش على وهم ; سأغيره بعد الزواج أو ساغيرها بعد الزواج. التحكم فيه/ها والتدخل في تصرفاته/ا باسم الغيرة و الحب. عدم الاعتراف بمسافة خاصة لكل طرف، واقتحام لخصوصيته وتدخل في كل تفاصيله باسم أصبحنا واحد. واحد هنا ليس كاتحاد ذاتين متشابهين ومختلفتين بينهما أشياء مشتركة واحتياجات متبادلة عاطفية وفكرية وجسدية… وإنما كرغبة في التملك والاحتواء الذي يذيب الاستقلالية و الاختلاف… الخ.
في حين أن المتأمل لواقع الناس ولعمق الذات الإنسانية في مختلف أبعادها النفسية والفكرية والوجدانية والاجتماعية، سيعرف ان الحب الحقيقي الواعي والمتزن ينبع من داخل الذات.
أستغرب كثيرا، كيف يمكن للإنسان أن يقدم الحب المتزن للآخر وهو لم يجرب ان يكون محبا لذاته، مهتما بها وراعيا لها وساعيا لإسعادها والرقي بها من كل ما يمكن أن يؤذيها؟!!!

إذا كان الإنسان قاسيا في حق نفسه التي تتحمله وتخوض معه هذه الحياة ، كيف له أن يكون غير قاسي في حق غيره؟!

وهنا نجد نوعين من الأشخاص: نوع يعيش هشاشة داخلية لها أبعاد نفسية عميقة، فتجده يعطي بدون اتزان باسم الحب والتضحية بالذات. خاصة وأن هذا المفهوم-الحب- مُرافق دائما بالألم والوجع وبعبارة “الحب أعمى”.

يا سيدي، ليس الحب أعمى بل أنت الذي تتعامى.

الحب وعي وبصيرة تنبع من الداخل، كلما كنت متصلا بذاتك وبخالقها. العلاقة مع الله أقوى نموذج لعلاقة الحب في هذا الوجود، إذ جعلها مبنية على الوعي والمعرفة خاصة في مرحلة معينة. لهذا كان أول أمْر أمَر به سبحانه وتعالى هو القراءة والوعي والتدبر، ليس لنتيقن من وجوده فقط، بل لكي يكون حبك له حبا واعيا صادقا صامدا. وجعل التدبر في ذاتك والرجوع لها شكلا من أشكال تعزيز حبك له وحبك لنفسك، فترى نعمه عليك وتحبها وتقدرها وتصونها، ليصبح مصدر الحب من داخلك يتجلى وينعكس على خارجك.. تشعر بعدها بالامتلاء، امتلاء لا ينفي أهمية حضور الآخر في عالمك. لكن هذه المرة النظرة له ستتغير،  بدل ما كان هو مصدر الحب  والعطاء والاهتمام والسعادة… أصبح تجلي من تجلياته على أرض الواقع، فيجعلك وجوده وحبك له وحبه لك  واقفا بشموخ وعنفوان في الحياة وأمام مطباتها… لتعيش نوعا من الاتزان الواعي في العطاء، بدون الدخول في المقارنات وإصدار الأحكام والسعي لتغيير الطرف الآخر وجعله امتدادا لك ولأفكارك وهويتك… متفهما لطبيعته واختلافه ، محاولا تأسيس التواصل والتفاهم وتغذية الحب ليستمر وينمو عبر خلق أرضية متينة على لَبِنَات وقواسم مشتركة في محاولة لجعل المختلف كمصدر اغناء للعلاقة، وتحقيق التآلف…

فالتآلف لا يكون بين متشابهين بشكل مطلق لأنهما أصلا مُتحدان، إنما يكون بين المختلف.
مقصود القول، من المهم جدا أن نعيد النظر في مفهوم الحب ومظاهره، لنكون أكثر وعيا بمعناه وبتجلياته. ونبني تصورا حقيقيا حوله يحررنا من كل ما يعيق سعادتنا ورقينا… ومن ثَم نميز بينه وبين ” وهم الحب” ومختلف أشكال التعلق والرغبة في التملك باسم الحب “المزيف” .


✍️ ذة. مريم الشيخي

اظهر المزيد

مريم الشيخي

أستاذة الفلسفة ،باحثة في علم النفس و مهتمة بكل ما له صلة بالإنسان في مختلف أبعاده وجوانبه.

مقالات ذات صلة

‫11 تعليقات

  1. مقال رائع ينم عن نظرة عميقة لموضوع الحب …وهو الموضوع الاكثر تداولا منذ ان ميز الانسان هذه المشاعر ..فهو قديم وشامل اذا اخذنا بعين الاعتبار كونه يشمل جميع الكائنات وبتعابير مختلفة…لقد افلحت صاحبة المقال في سبر اغواره لذى الانسان واعتباره توق للتكامل مع الابقاء على الاختلاف بين طرفين ليتولد عن ذلك انسجام واحترام …احترام الذات اولا واحترام للآخر الذي يمكن ان يدخل في وئام معه…تكامل فيه عطاء متبادل وليس مبنيا على السلب او البذل فقط …وفي نفس الوقت نلمس نظرة صوفية لمفهوم الحب الذي يؤطر علاقة المخلوق بخالقه…نظرة يمكن ان تعكسها شخصية رابعة العدوية حينما اعتزلت المجتمع ودخلت في علاقة روحانية مع ذاتها تمحورت حول العشق الالاهي…بعيدة عن كل التاثيرات المادية للحب…وهذا جانب آخر حاولت صاحبة المقال في اعتقادي ان تثيره في تعريفها للحب الحقيقي…

    1. شكرا استاذ سعيد على تحليلك لما بين سطور المقال، وقراءته بعين بصيرة وذهن متقذ وحس تربوي إنساني… صحيح👌 شعور الحب ليس وليد اللحظة، هو متجذر فينا يحتاج الانتباه لعظمته وتمييزه عن الشوائب/ المشاعر الأخرى التي تحجبه. خاصة إذا استحضرنا الإنسان في كليته; كجسد وعقل وروح… مودتي واحترامي🙏🙏🌷🌷

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!