مفهوم الوعيالظواهر الاجتماعية

مفهوم الوعي الجمعي.

مفهوم الوعي الجمعي.

* دلالة مفهوم ” الوعي الجمعي ” :

يشير الوعي الجمعي لمدى إدراك العقل الجمعي لمجتمع معين لمعنى الحياة والواقع ، بعناصره و مكوناته والوزن النسبي لكل منها وقوة تأثيرها ، وتفعيلاتها، و أسبابها، ونتائجها، دون اجتزاء أو تغيير، و اختلاف أو تزييف وما يجب فعله في تلك اللحظات التاريخية.
هذا الإدراك يمثل البنية المعرفية الحية اليقظة، الأكثر حضورا و تحكما في العقل و الوجدان للفاعلين الاجتماعيين. كما يُحدد بنسبة عالية شكل احتشاد أفراد المجتمع حول قضية ما أوهدف معين، وتوجيه بوصلة و اهتمام القوة الجمعية للمجتمع بغرض تحقيقه.

إنه- الوعي الجمعي-عبارة عن وعي الأفراد ، تصوراتهم ومعتقداتهم الفكرية….المتفق على صحتها بالإجماع حتى أصبحت جزء لا يتجزأ ولا ينفصل عن المجتمع الذي ينتمون إليه، وعن وعي أفراده بالعلاقات الإجتماعية الرابطة بينهم و بتجاربهم المشتركة، وقد يتطور هذا الوعي و ينمو ليحفزهم على الاشتراك في تحمل مسؤولية النهوض بمجتمعهم. ويترجم أيضا بلفظ “الضمير الجمعي” ،

الذي ينسب إلى عالم الإجتماع الفرنسي ” إميل دوركايم” الذي عرفه بكونه: “مجموعة من المعتقدات و العواطف المشتركة بين الأعضاء العاديين في مجتمع معين ،التي تشكل النسق المحدد لحياتهم” (سيمور-سميت).

وقد حظي هذا المفهوم بمكانة متميزة في كتابات دوركايم خاصة في كتابه “تقسيم الشغل“، حيث ارتبط أساسا بالمجتمعات الأقل تقدما و المتميزة بالتضامن الآلي. ولكن دوركايم نأى في كتاباته اللاحقة عن مفهومه الأصلي و إتجه نحو التصورات الجمعية باعتبارها حالات خاصة من الضمير الجمعي موجودة في مختلف المجتمعات.(١)

الوعي الجمعي

٢/ الموقف الإجتماعي – السياسي لدوركايم في علاقته بمفهوم ” الوعي الجمعي“.

فقد تميز الربع الأخير من القرن التاسع عشر في فرنسا بدخول الرأسمالية المرحلة الإمبريالية بظهور أزماتها الاقتصادية و السياسية و الثقافية المتأصلة. لم يتمكن النظام الإجتماعي-الإقتصادي من ضمان وجوده المستقر و كان يتعرض لتهديد أعمال الجماهير العاملة الثورية بإستمرار. و كانت الدوائر الأكليركية الملكية تناضل باستمرار ضد الجمهوريين البرجوازيين وتسعى جاهدة لاستعادة النظام الإجتماعي السابق، وفي الوقت نفسه كان تأثير الفلسفة الوضعية لعالم الاجتماع الفرنسي” أوغست كونت” يتعزز بشكل ملحوظ في مختلف المجالات الثقافية في نهاية القرن.

كما وجد الجمهوريين الذين كانوا يتقدمون ببرامج إصلاحية اجتماعية و سياسية نصيرا في فكرة ضرورة اعتبار السوسيولوجيا علما مستقلا و أساسيا لإعادة تنظيم المجتمع والمساهمة في بناء وعي جمعي متزن وجديد، ومقاربة الظواهر الاجتماعية مقاربة علمية وموضوعية بعيدا عن ماهو ميتافيزيقي أو لاهوتي.

تطور الفكر السوسيولوجي في عدة اتجاهات في فرنسا بين عامي 1870-1914. قاد هذه التطورات أحد اتباع لو بلاي Le Play الذي أجرى دراسات مونوغرافية عن الموقع الاقتصادي و العائلي لجماعات متنوعة من السكان . كان أتباع ” لو بلاي” محافظين ايديولوجيا، ورأوا في الدين أداة لدعم النظام الإجتماعي المتهاوي. كما قام “الإحصائيون الإجتماعيون” ، و أكثرهم كانوا من الموظفين المدنيين، بإجراء دراسات تجريبية لمختلف المؤسسات العامة تجمع السوسيولوجيين من مختلف الاتجاهات الوضعية حول “رينيه وورمز “René Worms الذي كان ممثلا للمجلة الدولية للسوسيولوجيا International Journal of Sociology.

وقد احتل تارد و و نوفيكوف ودي روبيرتي و أعضاء نشطين آخرين مكانا بارزا في جمعية باريس السوسيولوجيين الكاثوليكيين اتباع التوماوية فقد إتخدوا موقفا ثيولوجيا، لكن لم تخدم أي من هذه الاتجاهات، كأساس نظري… ، تطلعات الجمهوريين البرجوازيين الإجتماعية و السياسية. وجد المفهوم النظري و المنهجي الذي دعي الإتجاه السوسيولوجي Sociologism تعبيره الأكمل في كتابات دوركايم 1858-1971، والذي صار الأساس النظري لسياسة البرجوازيين الجمهوريين وايديولوجية للإصلاح الإجتماعي ومقدمة ضرورية ل”السلام الطبقي” و التنازلات العالمية وما للأمر من تأثير على تشكل الوعي الجمعي.

٣/ومن الجدير بالذكر أن الفرد في فترات التغير و التحول تعتريه حالة مغايرة لحاله في أيامه الطبيعية. إذ ينسلخ من حالته الفردية انسلاخا تاما، و يتقمص بقميص “سيكولوجية الجماهير”… ويتحول إلى كيان جماهيري .. ويصير هذا جزءا لا يتجزأ من الحشود التي تندفع سيلا هادرا نحو إتجاه واحد ينبغي الوصول اليه ولا يرضى عنه بديلا… بُغية الوصول الى الهدف المنشود.
إن الأفراد الذين تعرضوا لتحول ذهني كهذا، لا يستطعون أن يعملوا بعقلية الفرد المتثبت البصير ،بل إنهم يندفعون مأخودين ب”سيكولوجية الجماهير” و عقليتها، منفذين لتوجيهاتها. نذكر على سبيل المثال:
“إن الأفعال التي تصدر عن أبناء الوعي الجمعي تنسجم فيها العاطفة الجياشة مع السلوك الواعي المنتظم، والحيوية المتدفقة مع الإقدام المتصبر المتزن”.
وإن هذا النمط من العقلية “السيكولوجية” و مفرزاتها يختلف تمام الاختلاف عن نمط عقلية “الوعي الجمعي” و يتناقض معه تمام التناقض في مقاصده و مآلاته. إذ أن نمط “الوعي الجمعي” ينبني في أصله على التعقل و التمحيص و التثبت، وملاحظة الحاضر و المستقبل معا في التقدير و التدبير ، ومعاينة الجزء مع الكل جنبا الى جنب في آن واحد.
و من تم كنا و مازلنا نحض على هذا النمط من الوعي و ننصح به بإستمرار . فبينما تطغى على النمط الأول عواطف غير منضبطة و حماس غير متزن و انفعالات غير منتظمة، يتألق في النمط الثاني التعقل و التبصر والانضباط و الانتظام والحذر و التثبت.
وقد يبدو كل النمطين من التفكير و السلوك متشابهين للوهلة الأولى من حيث الصورة الحركية و العهود المستقبلية التي يبشران بها، إلا أنه في النمط الأول يستحيل تجنب وقوع عواقب تتناقض مع جوهر الحركة و أهدافها، في حين أنه في النمط الثاني لا مكان للتعثر و الفشل بالقدر نفسه على الإطلاق. ونذكر على سبيل المثال:
” إن الأفعال التي تصدر عن حشود مندفعة ب” سيكولوجية الجماهير” لا تخلو من أخطاء كبيرة و اضطرابات مدمرة”.

٤/أهم ما يميز المفكر و يدل على عمق رؤيته و صلابتها، هو بنية المفاهيم التي وظفها في مقاربة كل ما يتناوله من القضايا، وما يدرسه و يحلله من أفكار ،إذ كلما كانت هذه المفاهيم واضحة في جهازها الوصفي، وفي لغتها التفسيرية، كان ذلك دليلا على وضوح الرؤية ، وعلى تجذرها في شخصية المفكر الذي تصدر عنه، بل هي شخصية المفكر نفسه عندما تلامسها و تقترب منها تتعرف كثيرا على المفكر.

٥/ تبين العديد من الدراسات مدى أهمية الوعي الجمعي وحالة حركة التحولات الإجتماعية ،في بناء الوعي الذاتي الفردي و الجماعي بمنهجية واعية و ضابطة لحركة المجتمعات، و إذا فقدت هذه المنهجية فقد تسيطر الأهواء ،او الانبعاثات العاطفية غير مدروسة او الأفكار المنحرفة، وبذلك يصبح مصير المجتمعات بالأيدي العابثة.
توضح الدراسة كذلك كيفية المحافظة على التوازن الإجتماعي و حالة البناء و التطور الإجتماعي، ونشر ثقافة مصلحة الوطن والمجتمعات على المصالح الخاصة، والعمل الصالح بكل الحالات ، لاينتظر التوجيه أو التكلف ، وذلك من خلال استشعار المسؤولية العامة والخاصة.

اظهر المزيد

Rudayna

فضاء لحرية الفكر والقلم، في قالب إنساني هادف يسعى لنشر الوعي، تقدير الذات واحترام الآخر....

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!